ليس ضربا من الخيال أو إمعانا في الإثارة ما أنا مقبلة علي كتابته بل هي قصص من واقع الحياة … عرفت أبطالها وحفرت صورهم في ذاكرتي منذ كنت طفلة صغيرة .
بدأ الخوف يتسرب إلي قلبي الصغير منذ أن رأيت المعلمة لأول مرة ، فوجهها يحمل آثار حروق قديمة بشعة، ويداها كذلك، وحين كانت تنزاح خصلات شعرها الناعم كانت تظهر آثارا أكثر بشاعة علي رقبتها وأعلي صدرها
أصبح قلبي يدق بين ضلوعي كلما رأيتها، و
كنت أتخيلها في أحلامي وهي تنقض عليّ بيديها المحروقتين اللاتي يشبهن أيدي المسوخ الذين حدثتنا عنهم جدتي في حواديتها لكي نخلد إلي النوم مبكرين ومذعورين.
أما حين أصبحت معلمتي بعد أن كنت أراها في فناء المدرسة وفي طابور الصباح فان الخوف أصبح يعلن عن وجوده فلا أفهم ما تقوله، ولا استطيع أن أقرأ ما تكتبه بيدها الكريهة المنظر، لاكتشف بعد أيام أن صوتها ناعم رقيق، وأن خطها علي السبورة منمق جميل.
كانت ذكية لكي تلاحظ هذا الخوف الذي يعتريني والذي يطل من عيوني أنا وبقية التلميذات الصغيرات، ولكننا يوما بعد يوم بدأنا نعتاد شكلها وبدأنا نتجاوب معها
خاصة عندما رأيناها تصلي في آخر الفصل وترفع يدها المشوهة بالدعاء، فقد ملأت التلميذات الأكبر منا سنا رءوسنا الصغيرة بأقاويل كثيرة عنها، وبأنها مجرمة وتقتل التلميذات ولا تصلي إمعانا في الجريمة …
بدأت أشعر نحوها بعاطفة مختلفة، أحيانا أتمني أن أتحسس حروقها بأصابعي وأحيانا أخري أتمني لو كان لدي دواء سحريا أمسح به علي حروقها فتبرأ وتعود سيرتها الأولي، ولكن أحيانا كثيرة أتخيل أنها ولدت هكذا، فكل أواني الطهي ومواقد الغاز لا يمكن أن تسبب هذه البشاعة التي أراها هكذا أيضا كنت أفكر … ومر العام وتركت المدرسة كلها ولكنها لم تترك ذاكرتي اسمها … واسم عائلتها التصقا في أعماق ذاكرتي … وكأنني واثقة أن الأقدار سوف تدبر لنا لقاء آخر، وأن لغزها سوف تحله الأيام القادمة لي.
وقد كان … في المرحلة الثانوية تعرفت إلي طالبة مستجدة منقولة من مدرسة أخري، شيئا ما جذبني إليها، شعرت أن هذا الوجه قد رايته من قبل، لو أضفنا له عدة سنوات وبعض الحروق، أكون قد رأيت هذا الوجه فعلا.
فعلا … كانت ابنتها، لأن اللقاءات الأولي أتاحت لي أن أتعرف علي اسم عائلة الطالبة لأتأكد أنها من نفس عائلة المعلمة، بقي أن أسألها هل تعرفها ؟!
قالت ببساطة :- هي أمي …
كان صوتها يحمل مزيجا من الفخر والحزن والحب … يا لها من خلطة عجيبة من المشاعر في عبارة واحدة … استعملت كل أساليبي لتصبح صديقتي، لم أكن أتركها في طابور ولا فسحة ولا مشوار رواح حتى إنني كنت أقطع معها طريقا أطول حتى تصل إلي بيتها ثم أعود إلي الوراء لأسلك الطريق إلي بيتي ولم أهتم الشيء الوحيد الذي لم تسمح لي به هو أن أتصل بها علي هاتف البيت رفضت بإصرار عجيب، جعلني أفكر في لغز المعلمة وابنتها أكثر.
مرت الأيام وذاب الجليد بيننا حتى أصبحنا نتحدث سويا عن كل شيء حدثتها عن كل كبيرة وصغيرة في حياتي، وعن جذور عائلتي حتى أفسح لها المجال أن تحكي لي.
صبري كان علي وشك النفاذ، وهي تحكي لي عن أخوتها الذكور الذين يدرسون في دول غريبة في كليات عملية.
وأردفت : أعيش أنا وأمي في البيت لوحدنا، قلت وأبيك أليس علي قيد الحياة ؟ قالت نعم، ثم سكتت، لم يبق من صبري سوي جرعة واحدة أتجرعها والقي بزجاجة الصبر بعيدا حين تكلمت، كانت بحاجة لأن تحكي لأحد ما، فكلانا مراهقتان لا تشعران بالراحة والأمان في البوح إلا مع الغرباء !!
أمي مأساة داخل مأساة، مأساة مركبة ، أول مشهد تذكره أمي في حياتها
مشهد أباها وهو يحطم رأس أمها بالفأس، ماتت أمها وهي لم تشبع بعد من كلمة ماما ، لم تعرف الأسباب التي دفعت بابيها إلي هذه الفعلة، قيل أنه مجنون وقيل انه يعاني من أزمة نفسية وقيل أنه يعاني من مرض وراثي يسبب له تخيلا وهلوسات، ولكن النتيجة الأخيرة أن أحدا لم يقدمه إلي المحاكمة ، عاشت أمي يتيمة مع أب لا يعرف سوي العنف والقسوة، ولم تكن تعرف لماذا يعاملها وأخوتها هكذا، كانت أحيانا يردد : أنتم لستم أولادي، وأحيانا يبكي وينادي علي زوجته القتيلة ولا يلبث أن ينهال عليهم ضربا …
مرت السنوات بأمي حثي أنهت التوجيهي والتحقت بدار المعلمات في رام الله لتعود في احدي الإجازات وتجد أن أختها التي تكبرها بعام قد ماتت ميتة مجهولة السبب أشارت أصابع الأخوة الباقين إلي الأب، ولكن أحدا لم يجرؤ إلي رفع أصبع الاتهام نحوه.
حين أنهت أمي تعليمها وحصلت علي وظيفة معلمة في احدي مدارس وكالة الغوث أصر أباها علي تزويجها ابن عمها، ولكنها رفضت بإصرار، فابن عمها إنسان جاهل عديم الخلق عاطل عن العمل، لا يملك من متاع الدنيا إلا جهله وسوء خلقه وأمام رفضها كان والدها يكيل لها من ألوان العذاب ما تنوء به الجبال، حتى كان يوم حدد فيه موعدا لعقد القران، وأمي علي إصرارها وأمام جبروت أباها لم تفكر في عاقبة ما ستقدم عليه، فقد قررت الانتحار، فأمسكت بوابور الكاز وألقت به علي نفسها.
كانت تظن أن بفعلتها تلك سوف تموت وترتاح مما تعانيه، ولكنها أنقذت من قبل أخوتها قبل أن تأتي عليها النيران، وبقيت في المشفي لفترة طويلة وحين خرجت كانت إنسانة مشوهة كما رأيتها وكما يراها كل الناس، الغريب أن أبن عمها ظل علي موقفه بالزواج منها فهي كانت بالنسبة له مشروعا يجب أن يتم
وبالفعل تزوجها وهي صاغرة.
أنجبت أمي أخوتي الذكور ثم أنجبتني، وبعد ذلك غادرنا أبي بلا عودة فقد أخذ من أمي في سنوات قليلة من المال ما يكفيه ليبدأ حياة جديدة مع أسرة أخري، وأصبح أبي بالنسبة لنا شبحا نراه قليلا حين يحتاج بعض المال من أمي فتمنحه إياه بدون تعليق، وتمر السنوات وأمي هي كل شيء في حياتنا.
أخوتي في أكبر الجامعات قروض كثيرة حصلت عليها أمي حتى تنفق علي تعليمهم حتى لم يبق لها من راتبها ما يكفي أجرة مواصلاتها
أنا نهاية الرحلة بالنسبة لأمي، أمي المشوهة المحترمة التي يخافها الصغار ويشمئز منها الكبار ولكنها في داخلي مرآة مصقولة صنعت وجبلت من الحنان والعطاء والتضحية.
توقفت صديقتي عن الكلام، صديقتي ابنة معلمتي، التي أخافتني صغيرة، وأحزنتني، ومزقت نياط قلبي كبيرة.
معلمتي التي دفعت فاتورة طويلة ولم تطلب مقابلا من احد .