لا يختلط الزيت بالماء، فالزيت زيت والماء ماء حتى وإن وضعا في ذات الإناء، هذه هي حكمة الحفاظ على هوية كل شيء، وعدم مزج الشيء أو مساواته بالآخر عنوةَ، وكذلك الحال بالنسبة للحقوق، فهل تستوي الضحية مع الجلاد؟، وهل يستوي الميزان إن جلسا في كفتيه؟
تختلف الإجابة من منظور السياسة الحقوقية للمدافعين و المدافعات عن حقوق الإنسان وليس من منظور فكرهم ومعتقداتهم الشخصية، فأنا أجزم بأن الحقوقي والحقوقية هم حماة العدل وأنصار المستضعفين وضحايا الإنتهاكات، وأن عملهم الدفاعي مفيد للمجتمع أي كان مستوى هذه الإفادة، ومهما إصطدم هذا العمل الحقوقي ببعض المصالح الشخصية للمدافعين والمدافعات.
أما من منظور السياسة الحقوقية للمدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان فهناك مدرستين وهما مدرسة السياسة الناعمة والسياسة الحازمة، و يرى الحقوقيون من أنصار مدرسة السياسة الحازمة أنها مدرسة لا عنفية، لكنها تعتبر الضحية والجلاد خصمين متناحرين في حضرة العدالة الى أبد الآبدين و لا يمكن أن يساوى بينهما بالحقوق والمعاملة بأن شكل من الأشكال، وأن هذه المساواة المصطنعة تهز أركان العدالة وتضيع هوية القيم الفاصلة فصلاً حازماً بين الخير والشر، وأن تحقيق العدل يتطلب معاقبة الجناة، وإنصاف الضحايا خارج إطار المسايسة والتدخل الناعم، معتقدين بأن التدخل الناعم لن يحقق الردع للجاني، ولن يحقق الرضا للضحية.
في حين يرى أنصار مدرسة السياسة الحقوقية الناعمة، أن العدل لن يتحقق إلا بالتعاون الوثيق ما بين السلطة الشعب، ما بين الجاني والضحية، ما بين القوي والضعيف، وأن المهم حل المشكلة وليس توصيفها، ويوجهون الأسئلة بدون إرتباك، كيف نحمي حقوق الإنسان إن لم تتعاون السلطات الحكومية؟، وكيف نحمي سيادة القانون والأمن المجتمعي إن لم تتعاون السلطات الحكومية؟.
لكن نظرة المجتمع بفئاته الشعبية والفكرية تجاه مدرسة السياسة الحقوقية الناعمة لا تتعمق في فهم مقاصد هذه المدرسة، وإنما تتوقف عند بعض المشاهد المربكة والمثيرة للإستغراب، فهذا مواطن يرى مدافع و مدافعة يجتمعان بقائد سياسي، يتبادلون الإبتسامات والمصافحة الحارة، ثم يراهم ذاتهم في اليوم التالي يزورون الفقراء و يربتون على أكتاف المستضعفين فيصاب بالدهشة.
وهذه إعلامية ترى مدافع يستقبل المتهم بإرتكاب الإنتهاك ويحاوره، ثم تراه يستقبل ويحاورالضحية في اليوم التالي فيصيبها الذهول وتقرر كتابة مقال بعنوان”صديق الجاني والضحية”، وهذا ناشط سياسي يشاهد مشاركة على الفيسبوك ينتقد فيها أحد المدافعين قراراً ما لأحد وزراء الحكومة، ثم تغطي الصحف في الأسبوع التالي خبر إجتماع بناء عقد بين المدافع والوزير، فيفرك عينيه ليشاهد الصورة مرة أخرى، وهذه ضحية طلبت مساعدة المدافع وأن يقتص لها من المسؤول الأمني الفلاني، فيهاتفها المدافع بعد ساعات من مكتب المسؤول الأمني، فتصاب بالإرباك وتعتقد بأن المدافع موظف يعمل لدى ذلك الجهاز الأمني وأنه خدعها وغرر بها.
وبين تناقضات سياسة المدرستين وما تتركه من إنطباعات على الشارع والحراك المدني، تجدر الإشارة الى انه لا خسارة من تبني أي من المدرستين أو كلتيهما كمنهج لتحسين حالة حقوق الإنسان، اذ ان العمل الحقوقي هو عمل لا عنفي يستند الى القانون والإجراءات السلمية و السليمة، وأن أفضل الإسهامات في مجال تعزيز وحماية حقوق الإنسان هي سياسة البناء على الإيجابيات، ونفض غبار السلبيات، ومحاورة الاطراف ذات العلاقة، والتأثير في أصحاب السياسات الخاطئة وتصحيح أعوجاجها، ودعم المبادرات والآراء المؤمنة بحقوق الإنسان
، فحماية حقوق الإنسان عملية سياسية ديناميكية تحتاج الى تخطيط وتفكير معمق، وفهم لطبيعة الحدث، وتحديد أفضل الطرق للتدخل، وإدارة حوار بين أطراف الحدث و الجهات الفاعلة والمؤثرة في حركة حقوق الإنسان على المستوى الوطني.
لكن التحدي الوحيد الذي يواجه أنصار السياسة الناعمة يكمن في مدى إلتزامهم بقيم ومعايير الدفاع عن حقوق الإنسان ونطاق السياسة الحقوقية، وليس الإتكاء على نعومة هذه المنهجية في التفريط بحقوق الضحايا، وتحقيق الامجاد والمصالح الشخصية، وغض الطرف عن إنتهاكات حقوق الإنسان لأغراض شخصية، فإن وقع ذلك كانت حقوق الإنسان أكبر الخاسرين.